بروفايل: هاشم علي ..المعلم والأب الروحي

ثقافة وفن

هاشم علي
هاشم علي

 

عٌرف التشكيلي اليمني هاشم علي بـ"المعلم" وهو لقب استحقه بجداره، فعلى مدى أعوام تجربته الفنية التي امتدت من سبعينيات القرن الماضي وحتى السنة التاسعة من الألفية الثالثة عام وفاته، استطاع أن يكون بمثابة المدرسة الفنية التي تربى على أسسها جيل كبار التشكيليين في اليمن في الوقت الحالي، بل وما يزال ينهل منها حتى اليوم الجيل الجديد منهم.

 

الكتابة عن هاشم علي تشبه إلى حد كبير قراءة رواية شيقة لكاتب محترف، إذ يتوجب عليك وأن تكتب عنه أن تمر بمنعطفات كبيرة في حياته، كان له الدور الأساسي في تكوين هذا الإسم الذي وجد ليبقى وحسب.

 

طفولة هاشم علي لم تكن طفولة عادية، إذا ولد في أسرة ملتزمة دينياُ بل كان والده من الدعاة الإسلاميين وممن حملوا على كاهلهم تبعات هذه الرسالة في مواجهة المد الاشتراكي الذي تجسد مندفعًا بقوة في تلك الفترة من الزمن.

 

في هذا الجو نشأ هاشم علي والذي ولد في اندونيسيا عام 1945 وتحديدا في مدينة جاوا، حيث وجد نفسه ملزمًا بالإجبار لا بالاختيار على أن يتقيد بتعاليم النهج الذي تتبناه هذه الأسرة وهو مازال طفلاً صغيرًا.

 

غير أن تعهد خاله بتربيته وهو أمر يتحدث عنه هاشم علي كالحدث الأجمل في حياته خلال لقاءاته الصحفية، بخاصة وأنه وجد لديه مساحة أكبر من الحرية والتعبير عما يريد، وهي الجوانب التي كانت غائبة نوعاً ما في بيت والده، والذي يؤكد أنه كان يعيش فيه مرفهاً إلا فيما يتعلق بالنهج الفكري في التربية الذي يجعله ملزمًا باتباع نظم محددة يجب التقيد بها وتنفيذها.

 

13 عاماً كانت سنوات الحظ في حياة هاشم علي، والذي نكتب عنه اليوم في "اليمن العربي" بإعتباره واحد من القامات اليمنية التي كانت لها بصماته العميقة في الفن التشكيلي في اليمن، ورغم افتتاحه لمرسمه الخاص في مطلع السبعينيات، إلا أنه طالما ظل يردد لطلابه بألا يكونوا نسخة  عنه أو عن أي فنان فهذا يحد من الإبداع.

 

وعودة لطفولته فإن الـ13 عاماً الأولى من حياته كانت عامرة بالكثير إذا درس في المدرسة الصينية في اندونيسيا، من الصف الأول وحتى السادس وخلال تلك الفترة تكونت مقومات البناء الأساسية لبناء الإنسان السليم، جعلته يعرف من هو وماذا يريد، بل كانت هذه المرحلة سبب في قرارات مصيرية في حياته فيما بعد.

 

كانت عائلته آنذاك أخذت قراراً بإعادته لليمن وإلى حضرموت تحديداً لإكمال دراسته بصورة تؤسس لتربيته دينياً كما هو نهج العائلة، ظل القرار محل شد وجذب، حتى قتل والده على يد الاشتراكيين وهو يصلي، بحسب ما تذكر احدى الدراسات المنشورة عنه على الانترنت.

 

خاف عليه أفراد الأسرة من تعرضه هو الآخر للاستهداف لذا حسم أمر عودته لليمن، لتبدأ مرحلة مختلفة تماماُ من حياته، بعد أن ترك مدينة جاوا وخضرتها وأنهارها ووديانها وشلالاتها وسماءها دائمة المطر، وهي ما يصفها في بعض أحاديثه الصحفية بأنها كانت انعكاس لصورة الجنة المفقودة، الحلم البشري الذي عاشه في طفولته حقيقة بكل ما فيه.

 

لا تذكر سيرته الذاتية تاريخ عودته لليمن لكن أغلب ما كتب عنه وهو ما نقله لقارئ "اليمن العربي" في هذ المقال، يؤكد أن هذا القرار أحدث تحولاً كبيراً في حياته، بخاصة وأنه ودع مدينة طفولته "جاوا" إلى غير رجعة حتى وافته المنية في نوفمبر 2009.

 

في حضرموت وتحديداُ في مدينة تريم ألحق الطفل هاشم علي باحدى كتاتيت تعليم القرآن وعلومه ، إلا أن طرق التعليم المتبعة والنظم الموضوعة لذلك لم تجد قبولاً لديه ورأى فيها تعارضًا مع المكنون الداخلي الخاص به والناتج عن التكوين الفكري المسبق الذي يؤمن به، لذا لم يطل به، المقام كثيرًا في هذا المكان.

 

بدأت رحلة مختلفه في البحث عما يريد، وخلال ذلك عمل في عدة أعمال لكسب قوته، ومنها أعمال النجارة والبناء، ربما عاش خلال تلك الفترة المرحلة الأقسى في حياته.

 

ألتقى هاشم علي بأستاذه علي علوي الجفري وعلى يديه تعلم فن النحت، كان ذلك تريم قبل أن يغادرها للإقامة لدى شقيقة الصحفي المعروف آنذاك عبدالله علي والذي كان يقيم في أبين.

 

بدأت شخصية الشاب في التشكل، وانصرف إلى الاهتمام بالجانب السياسي بعض الشيء، ثم انتقل بعد ذلك للعيش مع أخيه أيضًا في مدينة عدن، وفيها أتيحت له الفرصة للتعرف على بعض الفنانين التشكيليين، منهم الفنان العقيلي الذي تعلم عنده فن الرسم مع العلم أنه كان يمارس الرسم باستمرار منذ بداياته الأولى في إندونيسيا حتى هذه الفترة التي وصل فيها إلى عدن.

 

زاد نشاطه السياسي بطبيعة تلك الفترة التي كانت تشهد تحولات كبيرة في اليمن شماله وجنوبه –قبل الوحده- وتعمق أكثر من ذي قبل وكان له فيه الكثير من الأحداث إلا أن الحال لم يدم به كثيرًا في هذا الجانب، وأدى به الأمر في نهاية المطاف إلى أن يتخذ قراراً بالإنسحاب من النشاط السياسي كلياُ، لذا لا تذكر سيرته أنه كان منضم لأي حزب سياسي.

 

تنقل هاشم علي وأقام في عديد مدن يمنية وخلال حوالي ستة أعوام تنقل من عمل إلى آخر، ومن محافظة إلى أخرى (حضرموت، أبين، عدن، الحديدة وتعز)، وربما كان لتنقلاته الكثيرة فرصة كافية للتعرف على الناس في مختلف المحافظات عن قرب والاحتكاك بهم عبر الأعمال البسيطة التي كان يكسب بها قوته، بما زاد من إحساسه بالأشياء حوله، وبالتالي رغبة شديدة بالرسم والآخر تمثل في تحول الرسم إلى هم يقتضي التزود لأجله بالمعرفة: فهم جوهر الفن وهدفه وأدواته.

 

وهكذا ابتدأ التجريب المقترن بالكثير من المعاناة والمكابرة، سواء في الهم المعيشي أو في همه الفني، إذ كانت إمكانات التعلم والتحفيز معدومة، إلا أنه واصل الرسم كلما وجد وقتاً لذلك، والتعلم الذاتي بواسطة البحث والتأمل.

 

وفي بداية تجاربه الفنية قلد هاشم علي الفنانين الذين استطاع أن يقرأ عنهم أكثر في الكتب الصادرة بالانجليزية وهي اللغة التي كان يجيدها والتي سهلت له النهل من منابع الفن، وجعلته يوصف بالفنان الذي علم نفسه الفن ذاتياً، لكنه توقف عن التقليد تماماً خلال فترة وجيزة وبدأ يختط تجربته الخاصة.

ففي فترة حياته تلك في اليمن لم يكن هناك ما يعرف بالفن التشكيلي، لذا يعود إليه الفضل الكبير في تأسيس الفن التشكيلي في اليمن، بخاصة وأنه فيما بعد افتتح مرسما وتعلم على يديه الكثير من التشكيلين اليوم كما أشرنا في مقدمة هذا المقال.

 

استقر به المقام في تعز وهي المدينة التي اختارها لتكون مدينته، ويقول عنها في أحد لقاءاته الصحفيه:"في تعز، أشعر بأني طفل، كل شيء ملكه، يمكن أن أدخل أي مكان، أي بيت، أعتلي سطح الجيران، أي شيء وكأنه ملكي، ليس لدي إحساس بالغربة عن الآخرين والأماكن هنا ولا أشعر بالكلفة، فهي مدينة سهلة، بسيطة، تعرفها سريعًا، وتتوحد معها، وتأنس بها وتأسرك بمشاعرك ووجدانك، أنا أدرك هذه الميزات، والآخرون الذين يستغربون إقامتي الدائمة في تعز لا يدركون ما أدركه، ولا يعرفون ماذا أعيش في تعز، فأنا أعيش فيها الكون كله، أنا أمتلك الكون كله من تعز".

 

وحتى عام 1970، كان "هاشم علي" قد قطع شوطاً كبيراً في تطوير قدراته كفنان بالإحساس بما حوله والتعاطي معه وفق فلسفة وسلوك جماليين شديدي الصدق والرهافة، مما أثرى ذاكرته الفنية والجمالية، وزاده إيماناً بالفن وبموهبته الفنية اللذين أعطاهما كل وقته وطاقاته، لذا فتح مرسمه لتدريس الفن التشكيلي، وهي الخطوة الأبرز في مسيرته الفنية والتي ما تزال تجني ثمارها حتى اليوم.

 

ثم حصل في العام التالي 1971 على منحة تفرغ كفنان من الحكومة اليمنية، فاتجه كليةً نحو الفنِّ التشكيلي، وأقام معارض تشكيلية جماعية ومنفردة داخل اليمن وخارجها، وكان أول معارضة كان في 1967.

 

نفذ هاشم علي خلال مسيرته الفنية أكثر من عشرين معرضًا مستقلاً داخل اليمن، وأكثر من خمسة وأربعين مشاركة في معارض أقيمت داخل اليمن وفي كلٍّ من : الكويت وقطر، وعمان، وليبيا، والعراق، وأمريكا، وفرنسا، وألمانيا.

 

تذكر سيرته الذاتية أنه تزوج ولديه من الأبناء ثمانيه، وبجانب مرسمه الذي تحول إلى مدرسة فنية، ساهم هاشم علي في تأسيس جمعية الفنانين التشكيليين اليمنيين ، وانتخب رئيساً لها عام 1986م .

 

وتبرز بصماته في تأسيس الفن التشكيلي في اليمن أيضاً عبر مشاركته في تأسيس نقابة التشكليين اليمنيين وذلك في 1997، ليطلق أسمه على قاعة الفنِّ التشكيلي في المركز الثقافي في مدينة صنعاء، كما أصدرت وزارة الثقافة عام 2004  كتابًا في سيرة حياته بعنوان (هاشم علي: حياة في اللون).

 

إلى ذلك حاز على العديد من الأوسمة والدروع التكريمية منها:  وسام صنعاء الذهبي من الدرجة الأولى، ووسام الدولة للآداب والفنون من الدرجة الأولى عام 1989، والدرع التكريمي لمؤسسة السعيد للثقافة والعلوم بتعز عام 2001.

 

منذ إقامته فيها في سبعينيات القرن الماضي لم يغادر هاشم علي تعز، لم تستطع أي قوة إجباره على فراق مدينته التي أحبها واختارها، بعد أن أجبر وهو طفل على مغادرة "جاوا" الاندونسيه، وفي صباح السبت 7 نوفمبر عام 2009 فاضت روحه إلى بارئها.


توفي هاشم علي واسمه بالكامل هو هاشم علي عبدالله مولي الدويلة عن 64 عاماً، ، مخلفاً ورائه تركة فنية كبيرة، ليظل بجدارة مؤسس الفن التشكيلي الحديث في اليمن والأب الروحي للتشكيليين اليمنيين.


فهاشم علي كان ولا يزال مدرسة أولى لكثير منهم سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فقد دأب تلاميذه على سلوك دربه، وإعادة تدوير ما رسمه "المعلم" حتى صارت المدرسة الواقعية التي أسس لها بصمة واضحه هي الأبرز حتى اللحظة في الساحة الفنية التشكيلية اليمنية.