د. حسن أبو طالب يكتب: الصيام! والجماع!.. الـ"توك شو" في زمن "الهبد"

اليمن العربي

يحرص زعماء الأمم المتحضرة، وفي القلب منها أم الدنيا، على أن يحيطوا أنفسهم بطبقة من المستشارين الأكفاء في مختلف الاختصاصات، حيث يدلي كل مستشار برأيه فيما يُعرض عليه من قضايا، كلٌ حسب اختصاصه. ربما لم ينتبه كثيرون، لا سيما  نجوم "التوك شو" من إعلاميين وضيوف، للرسالة الواضحة من وراء ذلك التقليد، ألا وهي افساح الطريق لأهل الاختصاص، حتى تستقيم الأمور، وتستبين القضايا، فلا يكثر اللغط، ولا تزيد البلبلة، فيما يهم الناس من قضايا، وما يمس حياتهم من موضوعات. كما يحرص على هذا التوجه الواعون من أعلام أمتنا، فلن تجد العالمي مجدي يعقوب، جراح القلوب وأميرها، بما أعرفه عنه من احترام للعلم وتقاليده، يبادر بالإدلاء برأيه فيما يخص سبل مواجهة فيروس كورونا المستجد، لا لشيء، إلا لاحترامه لذاته، وعلمه، وتاريخه، فضلاً عن تأصيل مبدأ الاعتماد على المتخصصين. وحتى لو وجه إليه سؤال في هذه القضية، ما تحرّج أن يقول "لست أهلاَ للإجابة عن هذا الأمر"! فما بال آخرين ؟!    

لعلنا تابعنا مؤخرًا تصدّي رمز بارز في مجتمعنا لبيان حكم الصيام والجماع في زمن الأوبئة للناس كافة، على إحدى شاشات الفضائيات. وأقول إنه رمز بمعنى الكلمة يا سادة، فهو المتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه، والمؤهل علميًا، حيث نال درجة الأستاذية في الفلسفة وتاريخ العلوم، ومن قبلها درجة الدكتوراه في الفلسفة، والماجستير في الفكر الصوفي. وهو الأديب ذائع الصيت، وصاحب قلم مبدع للكثير من المقالات في عدد من الصحف العربية. ولكن مهلاً..!! ما علاقة كل ذلك بالتصدي لحكم فقهي يخص أحد أركان الإسلام الخمسة عند جموع المسلمين؟! أهذا من باب عدم توفر أهل الاختصاص في الفقه بفروعه المتعددة، لا سمح الله؟! أم أنه من باب الاستخفاف بأمور الدين. لست هنا بصدد بيان حكم شرعي، فلست أهلاً لذلك، وإنما أريد أن أدق ناقوس خطر، وألقي الضوء على انتهاك واضح لأحد أهم القواعد المعمول بها إعلاميًأ، وهي الحرص على نفع الناس وتثقيفهم من خلال استقاء أراء أصحاب الاختصاص، لا أن نفتح عليهم أبوابًا لا طاقة لعوام الناس بها. وقد سبقه في ذلك أحد أعلام الطب النفسي في مصر، حين أدلى برأيه خلال لقاء تلفزيوني في أحد برامج "التوك شو" وقطع بعدم ثبوت صحة الأحاديث النبوية التي تتناول عذاب القبر. وأعود لأكرر، لست هنا لإثبات عكس ما ذهب إلي الطبيب النفسي الأول في مصر، فالرد مكفول هنا لأهل الحديث وعلومه! 

الكل خاسر، للأسف الشديد، إن استمرت مثل تلك الممارسات! حيث يفقد ضيف الـ "توك شو" الكثير من بريقه ومصداقيته لدى الناس في مجال اختصاصه الأصلي، حين يتصدى لأمر ليس أهلاً له، ولو حتى بالنقل عن آخرين من التراث. فالنقل من قبل غير المتخصصين قد يأتي بما لا يُحمد عقباه. نعم، يخسر الضيف وإن حقق له ذلك بعض الشهرة الذائفة من خلال "ترند" مؤقت، وتناول الناس اسمه لفترة محدودة، ويا ليتها "محمودة". ويهدر المواطنون الكثير من الوقت أمام شاشات التلفاز في متابعة أراء تصدر عن غير المتخصصين، بل ويهدرون جل طاقاتهم عند محاولة فهم البلبلة التي قد تحدث جراء محاولة أهل الاختصاص الرد على الأراء الشاذة والغريبة. ويخسر الإعلامي الكثير من مصداقيته لدى الشارع، بسعيه وراء فرقعة إعلامية على حساب إفادة المجتمع وتنويره، منتهكاً بذلك ميثاق شرف المهنة.

قد يبرر هؤلاء أفعالهم المستنكرة بالتخفي وراء مفاهيم، لا ينكرها إلا جاهل، وهي مفاهيم ترتبط بتطوير الفكر، وحرية إبداء الرأي، وحق الاجتهاد. ولكن المتأمل في تفاصيل ما يفعلون يجدهم دعاة فوضى، ينتهكون كل الأعراف العلمية الراسخة، ويثيرون الفتن، وينشرون الجهل في مجتمعاتهم. والجدير بالملاحظة هنا أنهم لا يفعلون ذلك إلا فيما يخص الأمور الدينية التي تمس الناس كافة بلا استثناء، ولعلهم في ذلك لا يعترفون أصلاً بأنها أحد فروع العلوم، إن لم تكن أم العلوم. فالعلوم الشرعية تخضع إلى أحكام العلوم الأخرى وينطبق عليها ما ينطبق على غيرها من قواعدٍ في مناهج البحث، والتدقيق، والتحري، والتأصيل.  وتراهم على النقيض من ذلك يراعون تلك القواعد فيما عدا ذلك من علوم كالطب والهندسة والكيمياء الحيوية والفضاء. فلن تجد إعلامي من هؤلاء يستضيف استاذاً في التراث العربي، أو في الطب النفسي ليتحدث عن سبل مواجهة نيزك يقترب من الأرض ويهدد من يعيش في رحابها.

 أما آن لنا أن ننتبه إلى تصحيح تلك الأخطاء، والانتباه إلى خطورة هذه المماراسات التي يتطاير شظاها ليصيب الجميع، حتى ننعم بمجتمع آمن وواع ٍيحترم العلم وأهله، ويوجه طاقته لما فيه النفع، وليس لإثارة البلبة واللغط. كل الآمال منعقدة على وزير الدولة للإعلام. فالسيد اسامة هيكل من أبناء المهنة، ويعلم قواعدها، وهو الأقدر على ضبط إيقاعها وتصحيح مسارها، حيث يتطلع الناس لأن يجدو أهل الاختصاص هم ضيوف حلقات البرامج الحوارية ،كل في مجاله، يتصدي للقضايا التي تخص شئونهم من دين ودنيا.